فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة البلد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد}
تقدم في مواضع متعددة من التنزيل الكريم تفسير {لَا أُقْسِمُ} و{البلد} هو مكة. وقيد القسم بقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد} عناية بالنبي صلوات الله عليه، فكأنه إقسام به لأجله، مع تعريض بعدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً، لهمهم بإخراج من هو حقيق به، وبه يتم شرفه.
قال الشهاب: والحِل صفة مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه. ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة.
وقيل: معناه وأنت يستحل فيه حرمتك، وتعرض لأذيتك. ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحَمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام، عليه الصلاة والسلام؟
وقيل: معناهُ وأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار، يقتل ويأسر، مع أنها ما فتحت على أحد قبلهُ، ولا أحلت له؛ ففيه تسلية له، ووعد بنصره، وإهلاك عدوه. والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، وفيهما- كما قالوا- بعدٌ، لاسيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير، فإنه غير متبادر منه. وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام، بجعل حلوله به مناطاً لإعظامه، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب، بذكر بعض موادّ المكايدة، على نهج براعة الاستهلال، وإنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد، في سبيل الدعوة إلى الله، ما لم يكابده داع قبله، صلوات الله عليه وسلامه.
{وَوَالِدٍ وَمَا ولد} عطف على هذا البلد، داخل في المقسم به. قيل: عني بذلك آدم وولده، وقيل: إبراهيم وولدهُ. والصواب- كما قال ابن جرير- أن المعني به كل والد وما ولد.
قال: وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان، يجب التسليم له بخصوصه. فهو على عمومه كما عمهُ.
وإيثار {ما} على من؛ لإرادة الوصف. فيفيد التعظيم في مقام المدح، وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها. ولذا أفادت التعجب أو التعجيب، وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] أي: أي: مولود عظيم الشأن وضعتهُ. وهذا على كون المراد إبراهيم والنبيّ عليهما الصلاة والسلام، ظاهر، أما على أن المراد به آدم وذريته، فالتعجب من كثرتهم، أو مما خص به الْإِنْسَاْن من خواص البشر، كالنطق والعقل وحسن الصورة. حكاه الشهاب.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كبد}
أي: في شدة، يكابد الأمور يعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار: إما في الجنة وإما في النار.
قال الزمخشري: الكبد أصله من قولك: كبد الرجل كبداً، فهو أكبد، إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة. كما قيل: كبته بمعنى أهلكه. وأصله كبدهُ إذا أصاب كبدهُ.
قال لبيد:
يَا عينُ هَلاَّ بَكَيْتِ أرْبدَ إذ ** قُمْنا وَقَامَ الخُصُومُ في كبد

أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. انتهى.
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه، مما يكابدهُ من قريش، من جهة أن الْإِنْسَاْن لم يخلق للراحة في الدنيا، وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصباً. هذا خلاصة ما قالوه.
وقال القاشاني: {فِي كبد} أي: مكابدة ومشقة من نفسه وهواه، أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب؛ إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفسادهُ وحجاب القلب وفسادهُ من هذه القوة؛ فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.
{أيحسب} أي: لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة {أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} أي: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على مجازاته وقهره وغلبته، مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.
{يَقول أَهْلَكْتُ مَالاً لبدا} أي: كثيراً، من: تلبد الشيء، إذا اجتمع. والمراد ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء. كقولهم: خسرت عليه كذا وكذا، إذا أنفق عليه، يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله. ولهذا قال: {أيحسب أن لَّمْ يَرَهُ أحد} أي: أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته، حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة، لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة؟
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين وَلِسَاناً وشفتين} قال القاشاني: أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال، ليبصر ما يعتبر به، ويسأل عما لا يعلم، ويتكلم فيه؟
وقال السيد المرتضى: هذا تذكير بنعم الله عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، والنطق أيضاً.
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} أي: طريقي الخير والشر، قال الإمام: النجد مشهور في الطريق المرتفعة، والمراد بها طريقي الخير والشر؛ وإنما سماهما نجدين، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يُظَن، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك، أي: أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدلهُ عليهما، ثم وهبناهُ الاختيار، فإليه أن يختار أي: الطريقين شاء. فالذي وهب الْإِنْسَاْن هذه الآلات، وأودع باطنه تلك القوى، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته.
{فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} أي: فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة. والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. و{العقبة} الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. استعارها لما يأتي، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} أي: شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله بمكانة رفيعة.
{فَكُّ رقبة} أي: عتقها، أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعاً به إلى ما فطرت عليه من الحرية.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة} أي: مجاعة.
{يَتِيماً ذَا مقربة} أي: قرابة.
قال السيد المرتضى: وهذا حضٌّ على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين، على الأجانب في الإفضال.
قال: وقد يمكن في {مقربة} أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى، بل من القرب الذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر، وهذا أشبه بقوله تعالى: {ذَا متربة} لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر. وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب. انتهى.
وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} أي: فقر شديد لا يواريه إلا التراب. يقال: ترب، كأنه لصق بالتراب. ويقال: فقر مدقع، و: فقير مدقع، بمعنى لاصق بالدقعاء، وهي التراب.
لطيفة:
ذهب الأكثرون إلى أن لا من قوله: {فَلَا} نافية. وإنما لم تكرر، مع أن العرب لا تكاد تفردها، كما جاء في آية {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها. لأن لا اقتحم لما فسر بما بعده كان في قوة: لافك رقبة ولا أطعم مسكيناً، وفي الآية أجوبة أخرى: منها أنه لما عطف عليه، كان وهو منفي أيضاً، فكأنها كررت.
وقيل: لا للدعاء. كقولهم: لا نجا ولا سلم، وقيل: مخففة من ألا التي للتحضيض.
وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل.
وقال الإمام: أما ما قيل من أن لا إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها، ولم تكرر في الآية، فذلك لا يلتفت إليه؛ لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة. وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها. وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}
أي: بالحق الذي جاءهم. عطف على المنفي بـ: لا وهو {اقْتَحَمَ} أو على {فَكُّ}
{وَتَوَاصَوْا} أي: أوصى بعضهم بعضاً {بِالصَّبْرِ} أي: على ما نابهم في سبيل الدعوة إلى الحق {وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} أي: بالرحمة على بعضهم. كقوله: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، أو بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به وعمل الصالحات {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الميمنة} أي: اليمين، أو جهة اليمين التي فيها السعداء.
تنبيه:
قال القاشاني: يشير قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} الآيات، إلى قهر النفس بتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها، حتى يصير التطبع طبعاً، ثم قال: فإن الإطعام، خصوصاً وقت شدة الاحتياج للمستحق، الذي هو وضع في موضعه، من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها، والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها، وهو الإيمان العلمي اليقيني، والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة؛ وأخّره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين. والمرحمة أي: التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة، فانظر كيف عدَّدَ أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل، وعبّر عنها بمعظم أنواعها. وأخص خصالها الذي هو السخاء، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس. وجاء بلفظة {ثُمَّ} لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ، وعبر عن الحكمة به لكونه أُمّ سائر مراتبها وأنوعها.
ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين. وأخر العدالة التي هي نهايتها. واستغنى بذكر المرحمة، التي هي صفة الرحمن، عن سائر أنواعها، كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} أي: بأدلتنا وأعلامنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق، التي بها يرتقي إلى معرفة الصراط التي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل {هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} أي: الشؤم على أنفسهم، أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء.
وقال الإمام: أهل اليمين، في لسان الدين الإسلامي، عنوان السعداء. وأهل الشمال عنوان الأشقياء.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مؤصدة} أي: مطبقة أبوابها، كناية عن حبسهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة البلد:
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد (2)}
تعريف بسورة البلد:
الدرس الأول: 1- 4 القسم بمكة والرسول والتوالد على كبد وتعب الإنسان:
تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية. حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة..
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
والبلد هو مكة. بيت الله الحرام. أول بيت وضع للناس في الأرض. ليكون مثابة لهم وأمنا. يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم، ويلتقون فيه مسالمين، حراما بعضهم على بعض، كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام. ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين.
ويكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة، وتزيده شرفا، وتزيده عظمة. وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام. والمشركون يستحلون حرمة البيت، فيؤذون النبي والمسلمين فيه، والبيت كريم، يزيده كرما أن النبي صلى الله عليه وسلم حل فيه مقيم. وحين يقسم الله- سبحانه- بالبلد والمقيم فيه، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه.
{وَوَالِدٍ وَمَا ولد (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كبد (4)}
ولعل هذا المعنى يرشح لاعتبار: {ووالد وما ولد}.. إشارة خاصة إلى إبراهيم، أو إلى إسماعيل- عليهما السلام- وإضافة هذا إلى القسم بالبلد والنبي المقيم به، وبانيه الأول وما ولد.. وإن كان هذا الاعتبار لا ينفي أن يكون المقصود هو: والد وما ولد إطلاقا. وأن تكون هذه إشارة إلى طبيعة النشأة الإنسانية، واعتمادها على التوالد. تمهيدا للحديث عن حقيقة الإنسان التي هي مادة السورة الأساسية.
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا الموضع من تفسيره للسورة في (جزء عم) لفتة لطيفة تتسق في روحها مع روح هذه (الظلال) فنستعيرها منه هنا..
قال رحمه الله:
ثم أقسم بوالد وما ولد، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود- وهو طور التوالد- وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في إبداء النشء وتكميل الناشئ، وإبلاغه حده من النمو المقدر له.
فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو: من مقاومة فواعل الجو، ومحاولة إمتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، وتستعد إلى أن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها، وتزين الوجود بجمال منظرها- إذا أحضرت ذلك في ذهنك، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم، ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم.. انتهى.
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني:
{لقد خلقنا الإنسان في كبد}..
في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح.. كما قال في السورة الأخرى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}..
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء- بإذن ربها- وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض- إلى جانب ما تذوقه الوالدة- ما تذوق. وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم!
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر. يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد. والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة.
وعند بروز الأسنان كبد.
وعند انتصاب القامة كبد.
وعند الخطو الثابت كبد.
وعند التعلم كبد.
وعند التفكر كبد. وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!
ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته. وهذا يكدح بفكره. وهذا يكدح بروحه. وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف... وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله. وهذا يكدح لشهوة ونزوة. وهذا يكدح لعقيدة ودعوة. وهذا يكدح إلى النار. وهذا يكدح إلى الجنة.. والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء. وتكون الراحة الكبرى للسعداء.
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا. تختلف أشكاله وأسبابه. ولكنه هو الكبد في النهاية. فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمر في الأخرى. وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله.
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء. إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير. ليس مثله طمأنينة بال وارتياحا للبذل، واسترواحا بالتضحية، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين، أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة.. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه.
{أيحسب أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد (5) يَقول أَهْلَكْتُ مَالاً لبدا (6) أيحسب أَن لَّمْ يَرَهُ أحد (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين (8) وَلِسَاناً وشفتين (9) وَهَدَيْنَاهُ النجدين (10)}
الدرس الثاني: 5- 7 الإنكار على بعض تصرفات الإنسان المالية:
وبعد تقرير هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية يناقش بعض دعاوى (الإنسان) وتصوراته التي تشي بها تصرفاته:
{أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد}.
إن هذا (الإنسان) المخلوق في كبد، الذي لا يخلص من عناء الكدح والكد، لينسى حقيقة حاله وينخدع بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه.. فيطغى ويبطش ويسلب وينهب، ويجمع ويكثر، ويفسق ويفجر، دون أن يخشى ودون أن يتحرج.. وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان.
ثم إنه إذا دعي للخير والبذل في مثل المواضع التي ورد ذكرها في السورة {يقول أهلكت مالا لبدا}.. وأنفقت شيئا كثيرا فحسبي ماأنفقت وما بذلت! {أيحسب أن لم يره أحد}؟ وينسى أن عين الله عليه، وأن علمه محيط به، فهو يرى ما أنفق، ولم إذا أنفق؟ ولكن هذا (الإنسان) كأنما ينسى هذه الحقيقة، ويحسب أنه في خفاء عن عين الله!
الدرس الثالث: 8- 10 تذكير الإنسان ببعض نعم الله عليه:
وأمام هذا الغرور الذي يخيل للإنسان أنه ذو منعة وقوة، وأمام ضنه بالمال وادعائه أنه بذل الكثير، يجابهه القرآن بفيض الآلاء عليه في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، وفي خصائص طبيعته واستعداداته تلك الآلاء التي لم يشكرها ولم يقم بحقها عنده: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين}..
إن الإنسان يغتر بقوته، والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة. ويضن بالمال. والله هو المنعم عليه بهذا المال. ولا يهتدي ولا يشكر، وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات: جعل له عينين على هذا القدر من الدقة في تركيبهما وفي قدرتهما على الإبصار. وميزه بالنطق، وأعطاه أداته المحكمة: {ولسانا وشفتين}.. ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل: {وهديناه النجدين}
{فَلَا اقْتَحَمَ العقبة (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة (12) فَكُّ رقبة (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة (14) يَتِيماً ذَا مقربة (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة (16)}.. ليختار أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين. والنجد الطريق المرتفع. وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق، وإعطاء كل شيء خلقه، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود.
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية؛ كما أنها تمثل قاعدة (النظرية النفسية الإسلامية) هي والآيات الأخرى في سورة الشمس: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا.
الدرس الرابع: 11- 18 دعوة الناس لاقتحام العقبة وتوجيههم إلى البذل والنفقة والصبر والرحمة:
هذه الآلاء التي أفاضها الله على جنس الإنسان في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، والتي من شأنها أن تعينه على الهدى: عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان؛ وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه. ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير؛ وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير. والكلمة أحيانا تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر؛ وأحيانا تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه. في هذه النار.. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار.
قال: سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: الصوم جنة. والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين، ثم تلا قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع.....} ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه.
قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟»
رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وهدايته إلى إدراك الخير والشر، ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار، وإعانته على الخير بهذه الهداية..
هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا (الإنسان) إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة. هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات:
{فلا اقتحم العقبة.. وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة..}
هذه هي العقبة التي يقتحمها الإنسان- إلا من استعان بالإيمان- هذه هي العقبة التي تقف بينه وبين الجنة. لو تخطاها لوصل! وتصويرها كذلك حافز قوي، واستجاشة للقلب البشري، وتحريك له ليقتحم العقبة وقد وضحت ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم.. {فلا اقتحم العقبة}! ففيه تحضيض ودفع وترغيب!
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم: (وما أدراك ما العقبة!).. إنه ليس تضخيم العقبة، ولكنه تعظيم شأنها عند الله، ليحفز به (الإنسان) إلى اقتحامها وتخطيها؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد. فالكبد واقع واقع. وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده، ولا يذهب ضياعا وهو واقع واقع على كل حال!
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الميمنة (18)}
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمس الحاجة إليه: فك الرقاب العانية؛ وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص، والذي تواجهه النفوس جميعا، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}...
وقد ورد أن {فك الرقبة} هو المشاركة في عتقها، وأن العتق هو الاستقلال بهذا.. وأيا ما كان المقصود فالنتيجة الحاصلة واحدة.
وقد نزل هذا النص والإسلام في مكة محاصر؛ وليست له دولة تقوم على شريعته. وكان الرق عاما في الجزيرة العربية وفي العالم من حولها. وكان الرقيق يعاملون معاملة قاسية على الإطلاق. فلما أن أسلم بعضهم كعمار بن ياسر وأسرته، وبلال بن رباح، وصهيب.. وغيرهم- رضي الله عنهم جميعا- اشتد عليهم البلاء من سادتهم العتاة، وأسلموهم إلى تعذيب لا يطاق. وبدا أن طريق الخلاص لهم هو تحريرهم بشرائهم من سادتهم القساة، فكان أبو بكر- رضي الله عنه- هو السابق كعادته دائما إلى التلبية والاستجابة في ثبات وطمأنينة واستقامة..
قال ابن اسحاق: وكان بلال مولى أبي بكر- رضي الله عنهما- لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة؛ ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد...
حتى مر به أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- يوما وهم يصنعون ذلك به- وكانت دار أبي بكر في بني جمح. فقال لأمية بن خلف، ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى. فقال أبو بكر: أفعل. عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك أعطيكه به.
قال: قد قبلت.
قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- غلامه ذلك وأخذه وأعتقه.
ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب. بلال سابعهم: عامر بن فهيرة شهد بدرا وقتل يوم بئر معونة شهيدا وأم عبيس، وزنيرة. وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان. فرد الله بصرها وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر- رضي الله عنه- حل يا أم فلان أي تحللي من يمينك فقالت: حل! أنت أفسدتهما فأعتقهما.
قال فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا.
قال: قد أخذتهما وهما حرتان. أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: ذلك إن شئتما.
ومر بجارية بني مؤمل- هي من بني عدي- وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام- وهو يومئذ مشرك- وهو يضربها، حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة! فتقول: كذلك فعل الله بك! فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا. فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك! قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله...
لقد كان- رضي الله عنه- يقتحم العقبة وهو يعتق هذه الرقاب العانية.. لله.. وكانت الملابسات الحاضرة في البيئة تجعل هذا العمل يذكر في مقدمة الخطوات والوثبات لاقتحام العقبة في سبيل الله.
{أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة}..
والمسغبة: المجاعة، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان. وقد كان اليتيم يجد في البيئة الجاهلية الجاحدة المتكالبة الخسف والغبن. ولو كان ذا قربى. وقد حفل القرآن بالوصية باليتيم. مما يدل على قسوة البيئة من حول اليتامى. وظلت هذه الوصايا تتوالى حتى في السور المدنية بمناسبة تشريعات الميراث والوصاية والزواج. وقد مر منها الكثير في سورة النساء خاصة.. وفي سورة البقرة وغيرهما. وكذلك إطعام المسكين ذي المتربة- أي اللاصق بالتراب من بؤسه وشدة حاله- في يوم المسغبة يقدمه السياق القرآني خطوة في سبيل اقتحام العقبة، لأنه محك للمشاعر الإيمانية من رحمة وعطف وتكافل وإيثار، ومراقبة لله في عياله، في يوم الشدة والمجاعة والحاجة. وهاتان الخطوتان: فك الرقاب وإطعام الطعام كانتا من إيحاءات البيئة الملحة، وإن كانت لهما صفة العموم، ومن ثم قدمها في الذكر. ثم عقب بالوثبة الكبرى الشاملة: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}...
و{ثم} هنا ليست للتراخي الزمني، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقا والأعلى أفقا. وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان. فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام. وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزنا في ميزان الله. لأنه يصله بمنهج ثابت مطرد. فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة.
وكأنما قال: فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة.. وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. فـ: {ثم} هنا لإفادة معنى الفضل والعلو.
والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة. والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته. درجة تماسك الجماعة المؤمنة، وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس. تشعر جميعا شعورا واحدًا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي. وإن يكن قائما على الصبر الفردي. وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة. وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة.
وكذلك التواصي بالمرحمة. فهو أمر زائد على المرحمة. إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع.
فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه. وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين. فهو دين جماعة، ومنهج أمة، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا..
وأولئك الذين يقتحمون العقبة- كما وصفها القرآن وحددها-(أولئك أصحاب الميمنة).. وهم أصحاب اليمين كما جاء في مواضع أخرى. أو أنهم أصحاب اليمين والحظ والسعادة.. وكلا المعنيين متصل في المفهوم الإيماني.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مؤصدة (20)}
الدرس الخامس: 19- 20 الكفار أصحاب المشأمة في النار الموقدة:
{والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة}..
ولم يحتج هنا إلى ذكر أوصاف أخرى لفريق المشأمة غير أن يقول: {والذين كفروا بآياتنا}.. لأن صفة الكفر تنهي الموقف. فلا حسنة مع الكفر. ولا سيئة إلا والكفر يتضمنها أو يغطي عليها. فلا ضرورة للقول بأنهم الذين لا يفكون الرقاب ولا يطعمون الطعام، ثم هم الذين كفروا بآياتنا.. فإذا كفروا فما هو بنافعهم شيء من ذلك حتى لو فعلوه!
وهم أصحاب المشأمة. أي أصحاب الشمال أو هم أصحاب الشؤم والنحس.. وكلاهما كذلك قريب في المفهوم الإيماني. وهؤلاء هم الذين بقوا وراء العقبة لم يقتحموها! {عليهم نار مؤصدة}.. أي مغلقة.. إما على المعنى القريب. أي أبوابها مغلقة عليهم وهم في العذاب محبوسون. وإما على لازم هذا المعنى القريب؛ وهو أنهم لا يخرجون منها. فبحكم إغلاقها عليهم لا يمكن أن يزايلوها.. وهذان المعنيان متلازمان..
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني، وفي التصور الإيماني. تعرض في هذا الحيز الصغير. بهذه القوة وبهذا الوضوح.. وهذه خاصية التعبير القرآني الفريد... اهـ.